الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد (نسخة منقحة)
.العلم والإيمان أفضل ما تكسبه النفس ويحصله القلب: فكل طائفة اعتقدت أن العلم ما معها وفرحت به، {فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون} الآية 53 من سورة المؤمنون وأكثر ما عندهم كلام وآراء وخرص، والعلم وراء الكلام، كما قال حماد بن زيد: قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما تقدم؟ فقال: الكلام اليوم أكثر، والعلم فيما تقدم أكثر. ففرق هذا الراسخ بين العلم بمعزل عن أكثرها، وهو ما جاء به الرسول عن الله قال تعالى: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} الآية 61 من سورة آل عمران وقال: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم} الآية 120 من سورة البقرة وقال القرآن: {أنزله بعلمه} الآية 166 من سورة النساء أي وفيه علمه. ولما بعد العهد بهذا العلم آل الأمر بكثير من الناس إلى أن اتخذوا هواجس الأفكار وسوانح الخواطر والآراء علماً، ووضعوا فيها الكتب وأنفقوا فيها الأنفاس فضيعوا فيها الزمان، وملئوا بها الصحف مدادا، والقلوب سواداً، حتى صرح كثير منهم أنهم ليس في القرآن والسنة علم وأن أدلتهم لفظية لا تفيد يقيناً ولا علماً، صرخ الشيطان بهذه الكلمة فيهم وأذَّن بها بين أظهرهم حتى أسمعها دانيهم لقاصيهم، فانسخلت بها القلوب من العلم والإيمان كانسلاخ الحية من قشرها والثوب عن لابسه. قال الإمام العلامة شمس الدين ابن القيم: أخبرني بعض أصحابنا عن بعض أتباع تلاميذ هؤلاء أنه رآه يشتغل في بعض كتبهم ولا يحفظ القرآن فقال له: لو حفظت القرآن أولاً كان أولى، فقال: وهل في القرآن علم؟ قال ابن القيم: وقال لي بعض أئمة هؤلاء: إنما نسمع الحديث لأجل البركة لا لنستفيد منه العلم؛ لأن غيرنا قد كفانا هذه المؤنة، فعمدتنا على ما فهموه وقرروه، ولا شك أن من كان هذا مبلغه من العلم فهو كما قال القائل: قال: وقال لي شيخنا مرة في وصف هؤلاء: إنهم طافوا على أرباب المذاهب ففازوا بأخس المطالب، ويكفيك دليلاً على أن هذا عندهم ليس من عند الله ما ترى فيه من التناقض والاختلاف ومصادمة بعضه للبعض، قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} الآية 82 من سورة النساء وهذا يدل على أن ما كان من عنده سبحانه لا يختلف. وأن ما اختلف وتناقض فليس من عنده وكيف تكون الآراء والخيارات وسوانح الأفكار دينا يدان به ويحكم به على الله ورسوله؟ سبحانك هذا بهتان عظيم وقد كان علم الصحابة الذي يتذاكرون فيه غير علوم هؤلاء المختلفين الخراصين كما حكى الحاكم في ترجمة أبي عبد الله البخاري قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا إنما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم ليس بينهم رأي ولا قياس. ولقد أحسن القائل: الإيمان المفصل معرفة وعلم وإقرار ومحبة. وأما الإيمان فأكثر الناس أو كلهم يدعونه {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} الآية 103 من سورة يوسف وأكثر المؤمنين إنما عندهم إيمان مجمل، وأما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة وعلماً وإقراراً ومحبة، ومعرفة بضده وكراهيته وبغضه، فهذا إيمان خواص الأمة وخاصة الرسول، وهو إيمان الصديق وحزبه. وكثير من الناس حظهم من الإيمان الإقرار بوجود الصانع، وأنه وحده هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وهذا لم يكن ينكره عباد الأصنام من قريش ونحوهم. وآخرون الإيمان عندهم هو التكلم بالشهادتين، سواء كان معه عمل أو لم يكن، وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه. وآخرون عندهم الإيمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السموات والأرض وأن محمداً عبده ورسوله، وإن لم يقر بلسانه ولم يعمل شيئاً، بل ولو سب الله ورسوله وأتى عظمته، وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله فهو مؤمن. وآخرون عندهم الإيمان هو جحد صفات الرب تعالى من علوه على عرشه وتكلمه بكلماته وكتبه وسمعه وبصره ومشيئته وقدرته وإرادته وحبه وبغضه وغير ذلك مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فالإيمان عندهم إنكار حقائق ذلك كله، وجحده والوقوف مع ما تقتضيه آراء المتهوكين وأفكار المخرصين الذين يرد بعضهم على بعض، وينتقض بعضهم قول بعض، الذين هم كما قال عمر بن الخطاب والإمام أحمد: مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب، متفقون على مفارقة الكتاب. وآخرون عندهم الإيمان عبادة الله بحكم أذواقهم ومواجيدهم وما تهواه نفوسهم من غير تقييد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وآخرون الإيمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائنا ما كان، بل إيمانهم مبني على مقدمتين: إحداهما: أن هذا قول أسلافنا وآبائنا، والثانية: أن ما قالوه فهو الحق. وآخرون عندهم الإيمان مكارم الأخلاق وحسن المعاملة وطلاقة الوجه وإحسان الظن بكل أحد، وتخلية الناس وغفلاتهم. وآخرون عندهم الإيمان: التجرد من الدنيا وعلائقها وتفريغ القلب منها والزهد فيها، فإذا رأوا رجلاً هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان وإن كان منسلخاً من الإيمان علماً وعملاً. وأعلى من هؤلاء من جعل الإيمان هو مجرد العلم وإن لم يقارنه عمل وكل هؤلاء لم يعرف حقيقة الإيمان ولا قاموا به ولا قام بهم وهم أنواع: منهم من جعل الإيمان ما يضاد الإيمان، ومنهم من جعل الإيمان ما لا يعتبر في الإيمان، ومنهم من جعله ما هو شرط فيه ولا يكفي في حصوله، ومنهم من اشترط في ثبوته ما يناقضه ويضاده، ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه. .الإيمان: وكماله: في الحب في الله والبغض في الله والعطاء لله والمنع لله وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده. والطريق إليه: تجريد متابعة رسوله ظاهرا وباطنا، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى ما سوى الله ورسوله، وبالله التوفيق. ومن اشتغل بالله عن نفسه كفاه الله مؤونة نفسه، ومن اشتغل بالله عن الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن اشتغل بنفسه عن الله وكله الله إلى نفسه، ومن اشتغل بالناس عن الله وكله الله إليهم. .أصول السعادة: أغبى الناس من ضل في آخر سفره وقد قارب المنزل. العقول المؤيدة بالتوفيق ترى أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الموافق للعقل والحكمة. والعقول المضروبة بالخذلان ترى المعارضة بين العقل والنقل وبين الحكمة والشرع. أقرب الوسائل إلى الله ملازمة السنة والوقوف معها في الظاهر والباطن ودوام الافتقار إلى الله وإرادة وجهه وحده بالأقوال والأفعال، وما وصل أحد إلى الله إلا من هذه الثلاثة وما انقطع عنه أحد إلا بانقطاعه عنها أو عن أحدها. الأصول التي انبنى عليها سعادة العبد ثلاثة، ولكل واحد منها ضد، فمن فقد ذلك الأصل حصل على ضده: التوحيد وضده الشرك، والسنة وضدها البدعة، والطاعة وضدها المعصية. ولهذه الثلاثة ضد واحد وهو خلو القلب من الرغبة في الله وفيما عنده ومن الرهبة منه ومما عنده. .أهل الهدى وأهل الضلال: فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة. فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم وهم الأدلاء الهداة، وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشئوا في سبيل الضلال والكفر والشرك والسبل الموصلة إلى الهلاك وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم، فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر، فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به، ومقدار ما كانوا فيه. فإن الضد يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها. فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه، ونفرة وبغضا لما انتقلوا عنه، وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام وأبغض الناس في ضده، عالمين بالسبيل على التفصيل. وأما من جاء بعد الصحابة، فمنهم من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين، فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا من كمال عمر رضي الله عنه، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل. فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ودعا إليه وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم ممن ابتدع بدعة ودعا إليها وكفر من خالفها. .الناس في هذا الموضع أربع فرق: الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام، وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك. الفرقة الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة، وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وإن لم يتصوره على التفصيل، بل إذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه، وهو بمنزلة من سلمت نفسه من إرادة الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه إليها نفسه، بخلاف الفرقة الأولى، فإنهم يعرفونها وتميل إليها نفوسهم ويجاهدونها على تركها الله. وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل: رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: إن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم. وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله وحذرها وحذر منها ودفعها عن نفسه ولم يدعها تخدش وجه إيمانه ولا تورثه شبهة ولا شكا، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لها ونفرة عنها، أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه. فإنه كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به، فيقوى إيمانه به. كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما مرت به فرغب عنها إلى ضدها ازداد محبة لضدها ورغبة فيه وطلبا له وحرصا عليه، فما ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي وميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها وخير له وأنفع وأدوم، وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه فتورثه تلك المجاهدة الوصول إلى المحبوب الأعلى. فكلما نازعته نفسه إلى تلك الشهوات واشتدت إرادته لها وشوقه إليها، صرف ذلك الشوق والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم، فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم، بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك، فإنها وإن كانت طالبة للأعلى لكن بين الطلبين فرق عظيم. ألا ترى أن من مشى إلى محبوبه على الجمر والشوك أعظم ممن مشى إليه راكبا على النجائب فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيره، فهو سبحانه يبتلي عبده بالشهوات، إما حجابا له عنه، أو حاجبا له يوصله إلى رضاه وقربه وكرامته. الفرقة الرابعة: فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة، وسبيل المؤمنين مجملة، وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع، فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول كذلك، بل عرفه معرفة مجملة وإن تفصلت له في بعض الأشياء ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا. وكذلك من كان عارفا بطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها، إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها. والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب وتبغض، كما يحب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك. وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار ما لا يعلمه إلا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه، وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتفائها لآثارها وموجباتها. وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه وإلهيته وحبه وبغضه وثوابه وعقابه، والله أعلم. أرباب الحوائج على باب الملك يسألون قضاء حوائجهم، وأولياؤه المحبون له الذين هو همهم ومرادهم جلساؤه وخواصه، فإذا أراد قضاء حاجة واحد من أولئك أذن لبعض جلسائه وخاصته أن يشفع فيه رحمة له وكرامة للشافع، وسائر الناس مطرودون عن الباب مضروبون بسياط البعد. .عشرة لا ينتفع بها: وأعظم هذه الإضاعات إضاعتان هما أصل كل إضاعة: إضاعة القلب وإضاعة الوقت، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد كله في اتباع الهوى وطول الأمل، والصلاح كله في اتباع الهدى والاستعداد للقاء الله، والله المستعان. العجب ممن تعرض له حاجة فيصرف رغبته وهمته فيها إلى الله ليقضيها له ولا يتصدى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل والإعراض وشفائه من داء الشهوات والشبهات، ولكن إذا مات القلب لم يشعر بمعصيته. .حق العبودية: وعبوديته في قضاء المعايب: المبادرة إلى التوبة منها والتنصل، والوقوف في مقام الاعتذار والانكسار، عالما بأنه لا يرفعها عنه إلا هو، ولا يقيه شرها سواه، وأنها إن استمرت أبعدته من قربه وطردته من بابه، فيراها من الضر الذي لا يكشفه غيره، حتى أنه ليراها أعظم من ضر البدن. فهو عائذ برضاه من سخطه، وبعفوه من عقوبته، وبه منه، مستجير وملتجئ، منه إليه، يعلم أنه إن تخلى عنه وخلى بينه وبين نفسه فعنده أمثالها وشر منها، وأنه لا سبيل له إلى الإقلاع والتوبة إلا بتوفيقه وإعانته، وأن ذلك بيده سبحانه لا بيد العبد، فهو أعجز وأضعف وأقل من أن يوفق نفسه أو يأتي بمرضاة سيده بدون إذنه ومشيئته وإعانته، فهو ملتجئ إليه متضرع ذليل مسكين، مُلْقٍ نفسه بين يديه، طريح ببابه، مستخز له أذل شيء وأكسره له، وأفقره وأحوجه إليه، وأرغبه فيه وأحبه له، بدنه متصرف في أشغاله، وقلبه ساجد بين يديه، يعلم يقينا أنه لا خير فيه ولا له ولا به ولا منه، وأن الخير كله لله وفي يديه وبه ومنه، فهو ولي نعمته، ومبتدئه بها من غير استحقاق ومجربها عليه مع تمقته إليه بإعراضه وغفلته ومعصيته، فحظه سبحانه الحمد والشكر والثناء، وحظ العبد الذم والنقص والعيب، قد استأثر بالمحامد والمدح والثناء، وولي العبد الملامة والنقائص والعيوب، فالحمد كله له، والخير كله في يده، والفضل كله له والثناء له والمنة كلها له، فمنه الإحسان ومن العبد الإساءة، ومنه التودد إلى العبد بنعمه ومن العبد التبغض إليه بمعاصيه , ومنه النصح لعبده ومن العبد الغش له في معاملته. وأما عبودية النعم فمعرفتها والاعتراف بها أولا، ثم العياذ به أن يقع في قلبه نسبتها وإضافتها إلى سواه وإن كان سببا من الأسباب فهو مسببه ومقيمه، فالنعمة منه وحده بكل وجه واعتبار ثم الثناء بها عليه ومحبته عليها وشكره بأن يستعملها في طاعته. ومن لطائف التعبد بالنعم أن يستكثر قليلها عليه، ويستقل كثير شكره عليها، ويعلم أنها وصلت إليه من سيده من غير ثمن بذله فيها ولا وسيلة منه توسل بها إليه ولا استحقاق منه لها، وأنها لله في الحقيقة لا للعبد فلا تزيده النعم إلا انكسارا وذلا وتواضعا ومحبة للمنعم. وكلما جدد له نعمة رضي، وكلما أحدث ذنبا أحدث له توبة وانكسارا واعتذارا. فهذا هو العبد الكيس، والعاجز بمعزل عن ذلك، وبالله التوفيق.
|